فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} أي مبنية فهو مصدر كالغفران واستعمل بمعنى المفعول، وعن أبي علي أن البنيان جمع واحده بنيانة ولعل مراده أنه اسم جنس جمعي واحده ما ذكر وإلا فليس بشيء، والتأسيس وضع الأساس وهو أصل البناء وأوله، ويستعمل بمعنى الأحكام وبه فسره بعضهم هنا، واختار آخرون التفسير الأول لتعديه بعلي في قوله سبحانه: {على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} فإن المتبادر تعلقه به، وجوز تعلقه بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في أسس وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى، والمراد من الرضوان طلبه بالطاعة مجازًا وإن شئت قدرت المضاف ليكون المتعاطفان من أعمال العبد، والهمزة للإنكار، والفاء للعطف على مقدر كما قالوا في نظائره أي أبعد ما علم حالهم فمن أسس بنيانه على تقوى وخوف من الله تعالى وطلب مرضاته بالطاعة {خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ} أي طرفه، ومنه أشفى على الهلاك أي صار على شفاء وشفى المريض لأنه صار على شفا البرء والسلامة ويثنى على شفوان.
والجرف بضمتين البئر التي لم تطو، وقيل: هو الهوة وما يجرفه السيل من الأودية لجرف الماء له أي أكله وإذهابه.
وقرأ أبو بكر وابن عامر وحمزة {جُرُفٍ} بالتخفيف وهو لغة فيه {هَارٍ} أي متصدع مشرف على السقوط وقيل ساقط؛ وهو نعت لجرف وأصله هاور أو هاير فهو مقلوب ووزنه فالع، وقيل: إنه حذفت عينه اعتباطًا فوزنه قال، والإعراب على رائه كباب، وقيل: إنه لا قلب فيه ولا حذف وأصله هور أو هير على وزن فعل بكسر العين ككتف فلما تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله قلب ألفًا، والظاهر أنه وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى فيما سبق، وفيه استعارة تصريحية تحقيقية حيث شبه الباطل والنفاق بشفا جرف هار في قلة الثبات ثم استعير لذلك والقرينة المقابلة، وقوله تعالى: {فانهار بِهِ في نَارِ جَهَنَّمَ} ترشيح، وباؤه أما للتعدية أو للمصاحبة، ووضع في مقابلة الرضوان تنبيهًا على أن تأسيس ذلك على أمر يحفظه مما يخاف ويوصله إلى ما أدنى مقتضياته الجنة، وتأسيس هذا على ما هو بصدد الوقوع في النار ساعة فساعة ثم المصير إليها لا محالة، والاستعارة فيما تقدم مكنية حيث شبهت فيه التقوى بقواعد البناء تشبيهًا مضمرًا في النفس ودل عليه ما هو من روادفه ولوازمه وهو التأسيس والبنيان، واختار غير واحد أن معنى الآية أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة محكمة هي التقوى وطلب الرضا بالطاعة خير أم من أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها فأدى به ذلك لخوره وقلة استمساكه إلى السقوط في النار، وإنما اختير ذلك على ما قيل لما أنه أنسب بتوصيف أهل مسجد الضرار بمضارة المسلمين والكفر والتفريق والإرصار وتوصيف أهل مسجد التقوى بأنهم يحبون أن يتطهروا بناء على أن المراد التطهير عن المعاصي والخصال المذمومة لأنه المقتضى بزعم البعض لمحبة الله تعالى لا التطهير المذكور في الأخبار، وأمر الاستعارة على هذا التوجيه على طرز ما تقدم في التوجيه الأول، وجوز أن يكون في الجملة الأولى تمثيل لحال من أخلص لله تعالى وعمل الأعمال الصالحة بحال من بنى بناء محكمًا يستوطنه ويتحصن به، وان يكون البنيان استعارة أصلية والتأسيس ترشيحًا أو تبعية وكذا جوز التمثيل في الجملة الثانية وإجراء ذلك فيها ظاهر بعد اعتبار إجرائه في مقابله، وفاعل {أَنْهَارٌ} إما ضمير البنيان وضمير {بِهِ} للمؤسس وإما للشفا وضمير به للبنيان وإليه يميل ظاهر التفسير المار آنفا.
وظاهر الأخبار أن ذلك المسجد إذا وقع وقع في النار.
فقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة أنه قال في الآية: والله ما تناهى أن وقع في النار، وذكر لنا أنه حفرت فيه بقعة فرئى منه الدخان.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى أنه قال فيها: مضى حين خسف به إلى النار.
وعن سفيان بن عيينة يقال: إنه بقعة من نار جهنم.
وأنت تعلم أني والحمد لله تعالى مؤمن بقدرته سبحانه على أتم وجه وأنه جل جلاله فعال لما يريد لكني لا أومن بمثل هذه الظواهر ما لم يرد فيها خبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقرأ نافع وابن عامر {أَسَّسَ} بالبناء للمفعول في الموضعين، وقرئ {المطهرين أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} على الإضافة ونسب ذلك إلى علي بن نصر {وأسس} بفتحات ونسبت إلى عاصم {إساس} بالكسر، قيل: وثلاثتها جمع أس وفيه نظر، ففي الصحاح الأس أصل البناء وكذلك الأساس والأسس مقصور منه وجمع الأس أساس مثل عس وعساس وجمع الأساس أسس مثل قذال وقذل وجمع الأسس آساس مثل سبب وأسباب انتهى.
وجوز في في أسس أن يكون مصدرًا.
وقرأ عيسى بن عمرو {وتقوى} بالتنوين، وخرج ذلك ابن جنى على أن الألف للإلحاق كما في أرطى ألحق بجعفر لا للتأنيث كالف تترى في رأي وإلا لم يجز تنوينه.
وقرأ ابن مسعود {فَإِنَّهَا رَبَّهُ والمشركين في نَارِ جَهَنَّمَ} {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} أي لأنفسهم أو الواضعين للأشياء في غير مواضعها أي لا يرشدهم إلى ما فيه صلاحهم إرشادًا موجبًا له لا محالة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} تفريع على قوله: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه} [التوبة: 108] لزيادة بيان أحقية المسجد المؤسَّس على التقوى بالصلاة فيه.
وبيان أن تفضيل ذلك المسجد في أنه حقيق بالصلاة فيه تفضيل مسلوب المشاركة لأن مسجد الضرار ليس حقيقًا بالصلاة فيه بعد النهي، لأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لو وقعت لأكسبت مَقصدَ وَاضعيه رواجًا بين الأمة وهو غرضهم التفريق بين جماعات المسلمين كما تقدم.
والفاء مؤخرة عن همزة الاستفهام لأحقية حرف الاستفهام بالتصدير.
والاستفهام تقريري.
والتأسيس: بناءُ الأساس، وهو قاعدة الجدار المبني من حجر وطين أو جص.
والبنيان في الأصل مصدر بوزن الغُفران والكفران، اسم لإقامة البيت ووضعه سواء كان البيت من أثواب أم من أدم أم كان من حجر وطين فكل ذلك بناء.
ويطلق البنيان على المبني من الحجر والطين خاصة.
وهو هنا مطلق على المفعول، أي المبني.
وما صدق (من) صاحبُ البناء ومستحقه، فإضافة البنيان إلى ضمير (مَن) إضافة على معنى اللام.
وشُبه القصد الذي جعل البناء لأجله بأساس البناء، فاستعير له فعل {أسس} في الموضعين.
ولما كان من شأن الأساس أن تطلب له صلابة الأرض لدوامه جعلت التقوى في القصد الذي بني له أحد المسجدين، فشبهت التقوى بما يرتكز عليه الأساس على طريقة المكنية، ورُمز إلى المشبه به المحذوف بشيء من ملائماته وهو حرف الاستعلاء.
وفُهم أن هذا المشبه به شيء راسخ ثابت بطريق المقابلة في تشبيه الضد بما أسس على شفًا جُرُف هار، وذلك بأن شبه المقصد الفاسد بالبناء بجرْف جُرف منهار في عدم ثبات ما يقام عليه من الأساس بله البناء على طريقة الاستعارة التصريحية.
وحرف الاستعلاء ترشيح.
وفرع على هذه الاستعارة الأخيرة تمثيل حالة هدمه في الدنيا وإفضائه ببانيه إلى جهنم في الآخرة بانهيار البناء المُؤسس على شفَا جُرف هارَ بساكنه في هوّة.
وجعل الانهيار به إلى نار جهنم إفضاء إلى الغاية من التشبيه.
فالهيئة المشبهة مركبة من محسوس ومعقول وكذلك الهيئة المشبه بها.
ومقصود أن البنيان الأول حصل منه غرض بانيه لأن غرض الباني دوام ما بناه.
فهم لما بنوه لقصد التقوى ورضى الله تعالى ولم يُذكر ما يقتضي خيبتهم فيه كما ذُكر في مقابله عُلم أنهم قد اتقوا الله بذلك وأرضوه ففازوا بالجنة، كما دلت عليه المقابلة، وأن البنيان الثاني لم يَحصل غرضُ بانيه وهو الضرار والتفريق فخابوا فيما قصدوه فلم يثبت المقصد، وكان عدم ثباته مفضيًا بهم إلى النار كما يفضي البناء المنهار بساكنه إلى الهلاك.
والشَّفا بفتح الشين وبالقصر: حرف البئر وحرف الحفرة.
والجُرف بضمتين: جانب الوادي وجانب الهُوة.
وهارٍ: اسم مشتق من هَارَ البناءُ إذا تصدع، فقيل: أصله هَوَر بفتحتين كما قالوا خَلَف في خالف.
وليست الألف التي بعد الهاء ألف فاعل بل هي عين الكلمة منقلبة عن الواو لأن الواو متحركة وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، وقيل هو اسم فاعل من هار البناء وأصل وزنه هاور، فوقع فيه قلب بين عينه ولامه تخفيفًا.
وقد وقع ذلك في ألفاظ كثيرة من اللغة مثل قولهم: شاكي السلاح، أصله شائِك.
ورجل صاتٌ عالي الصوت أصله صائتٌ.
ويدل لذلك قولهم: انهار ولم يقولوا انهرى.
وهَرٍ مبالغةً في هَار.
وقرأ نافع وابن عامر وحدهما فعل {أسس} في الموضعين بصيغة البناء للمفعول ورفع {بنيانُه} في الموضعين.
وقرأها الباقون بالبناء للفاعل ونصب {بنيانَه} في الموضعين.
وقرأ الجمهور {جُرُف} بضم الراء.
وقرأه ابن عامر وحمزة وأبو بكر عن عاصم وخلفٌ بسكون الراء.
وجملة: {والله لا يهدي القوم الظالمين} تذييل، وهو عام يشمل هؤلاء الظالمين الذين بنوا مسجد الضرار وغيرهم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ}
وقوله: {أَفَمَنْ} استفهام، وكأنه يقول: وكيف تساوون بين مسجد أسِّسَ على التقوى من أول يوم، ومسجد اتُّخِذ للضرار وللكفر ولتفريق جماعة المسلمين وإرصادًا لمن حارب الله؟
إنهما لا يستويان أبدًا، وساعة يطرح الحق هذه العملية بالاستفهام فسبحانه واثق من أن عبده سيجيب بما يريد الله.
وقول الحق: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} نجد كلمة {بنيان} وهي مصدر؛ بنى بنيانًا، لكن أطلق على الشيء المبني، فنقول، إن هذا البنيان فرعوني.
إّذن: هناك فرق بين عملية البناء وبين الشيء الذي ينشأ من هذه العملية، وكلمة البنيان اسم جنس جمعي؛ لأنه يصح أن يكون جمعًا ومفرده بنيانة مثلما نقول: رمان، ومفرده رمانة، وعنب ومفرده عنبة، وأيضًا روم مفرده رومي فياء النسب هنا دخلت على الجمع فجعلته مفردًا. إذن: يُفرق بين الواحد والجمع، إما بالياء وإما بالتاء.
وقد حكم سبحانه بألا يصلوا في مسجد الضرار، وعليهم أن يصلوا في المسجد الآخر، وهو مسجد قباء، ثم يرد سبحانه الأمر إلى المؤمنين، ليعرفوا أن ما حكم به سبحانه هو ما تقبله العقول، وأن حكمهم يوافق حكم ربهم.
ثم يقول سبحانه: {أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانهار بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} وهنا ثلاث كلمات: شفا، وجُرف، وهَار. والشفا مأخوذ من الشَّفَة، والشفا حرف الشيء وطرفه. وسكانُ سواحل البحار يعرفون أن البحار لها نحر من تحت الأرض، وتجد الماء يحفر لنفسه مساحة تحت الأرض ويترك شفة من الأرض، ولو سار عليها الإنسان لوقع؛ لأنها الطرف الذي ليس له قاعدة وأسفله مَنْحور.
و{شفا جُرُف} أي طرف سينهار؛ لأنه {هار} أي غير متماسك، فتكون الصورة أن الماء ينحر في الساحل، فيصنع شفة لها سطح وليس لها قاعدة تحتها، وهذه اسمها {شفا جُرُف}.
وقد قال القرآن في موضع آخر: {واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النار فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا...} [آل عمران: 103].
إنها الحفرة في النار، فكيف يكون شكلها؟ لابد أنه مرعب.
ونحن نعلم أنهم كانوا حين يحفرون الآبارليخأذوا منها الماء، كانوا يضعون في جدار البئر أحجارًا تمنع ردمه؛ لأن البئر إن لم يكن له جدار من حجارة قد ينهار بفعل سقوط الرمال من على فوهته، وهكذا تمنع الأحجار أي جزء متآكل من سطح البئر من الوقوع فيه، والجزء المتآكل هو جرف هَارٍ، وهكذا كان مسجد الضرار، ينهار بمن فيه في نار جهنم.
ويذيل الحق الآية: {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} وهم كانوا ظالمين بالنفاق؛ لذلك لم يَهْدِهم الله إلى عمل الخير؛ لأن الله لا يهدي الظالم. وسبحانه يقول في أكثر من موضع بالقرآن: {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [المائدة: 108].
ويقول سبحانه: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [البقرة: 264].
ويقول عز وجل: {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [البقرة: 258].
والهداية- كما علمنا من قبل- قسمان: هداية الدلالة، وهي لجميع الخلق ويدل بها الناس على طريق الخير، ولهم أن يسلكوه أو لا يسلكوه، فهم أحرار، فلله هداية شملت الجميع، وهي هداية الدلالة، أما الهداية المنفية هنا فهي هداية المعونة. اهـ.